تعليمالأدب

فيروس كورونا: الحاجة الى كانط

يمكن أن تقرأ أيضا: فيروس كورونا مصطنع الاقتصاد بين أمريكا والصين

يسعى الانسان دائما الى الحفاظ على حياته، وهذا واجب أخلاقي تفرضه الذات على نفسها، لكن قد يتمرد الإنسان أحيانا على هذا الواجب، ويسعى الى إرضاء رغباته على حساب الآخر، وبذلك، ينتهك كل واجب وكل قانون أخلاقي، لأن اكتمال إنسانية الإنسان، تقتضي معاملة الكل معاملة خيرة، على اعتبار أنه الغاية والمقصد والهدف من أي فعل، وليس مجرد طريق للعبور.

هذا ما صاغه كانط في أمره الأخلاقي “إفعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك، بوصفها دائما وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة” فالإنسان والإنسانية وحدها من تستحق أن تعامل كغاية، باعتبار الإنسان كائنا عاقلا، وهذا ما يمكن أن يجعل منه كائنا أخلاقيا.

إن الأفعال التي يقوم بها الإنسان، مهما بلغت من درجة الخيرية والامتثال، لا يمكن أن تكون خيرا أو أن تستمر على هذا الخير، إلا إذا كانت “الإرادة على اتفاق مع العقل”. وهذا معناه أن كل فعل إنساني يلا يخضع لاستقلال ذاتي، لا يمكن أن يكون خيرا، لأنه لن يكون متفقا مع المبادئ العقلية القبلية، على اعتبار أن العقل يملك مبادئ قبلية يستطيع الإنسان من خلالها التمييز بين الصواب والخطأ، والإرادة إذا لم تكن قائمة على هذه المبادئ، لا يمكن اعتبارها خيرة، أما إذا كانت تقوم على هذه المبادئ، فلابد من أن تكون خيرة وأن تحمل في طياتها كل الخير، وهذا هو الأساس الوحيد الذي ينبغي أن يُبنى عليه الإنسان، لا عن أي إكراه خارجي كيفما كان.

ماذا إذا لم تكن الإرادة على اتفاق مع العقل؟

لا يمكن للإرادة إلا أن تتخذ مسارين: إما الاتفاق مع العقل أو الاتفاق مع المجتمع تحت طائلة التهديد الخارجي على اختلافه.

إن الإرادة الإنسانية كلما ابتعدت عن المبادئ الأولية التي تؤسسها، إلا وصارت في الاتجاه الثاني الذي ذكرناه، أي الاتفاق تحت التهديد. وهذا الأمر إذا ما حاولنا التأمل فيه جيدا، حتما سنجد أنه لا يمكن أن يؤسس لنا مواطنا صالحا، لأن الإدارة في هذه الحالة ستكون مرتبطة بموضوع خارجي وخاضعة له، ولن يكون فعل الإرادة هنا إلا عن طريق إلزام يُفرض من الخارج تحت طائلة التهديد، هذا الإكراه قد ينفع وقد يروض الإرادة الإنسانية على فعل الخير، لكن الفعل الخير في هذه الحالة لن يدوم طويلا، بل سيوجد ما دام الإكراه موجودا، فإذا زال الإكراه زالت الخَيريّة من فعل الإرادة أيضا، وتحول الفعل من خير إلى غير ما كان عليه، فالشخص دائما يقتنص الفرصة ليصير كما يشاء ويفعل ما يريد.

الحجر الصحي: تواقف المبادئ القبلية مع القانون الوضعي

إن الشخص الذي تصل به الضروف لمرحلة يفكر فيها بالانتحار، لكنه يمتنع عن ذلك حفاظا على حياته، يمتثل فعله هذا للواجب الأخلاقي. هكذا يقول كانط في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق. إذن الحفاظ على الحياة واجب أخلاقي مفروض من الداخل لا من الخارج.

يدعو القانون الوضعي أيضا الى الحفاظ على الحياة. لذلك يجعل من الانتحار جريمة، ويجرم أي فعل يسلب الحياة من الناس، على اعتبار أن الحق في الحياة أول حقوق الإنسان. إن القانون الوضعي من هذا الجانب، يظهر متفقا مع القانون الأخلاقي إلى حد ما، لأنهما معا يدعوان الى الحفاظ على الحياة كحق وكمبدأ.
لكن إلى متى هذا الاتفاق؟

يتجسد الإتفاق التقريبي بين القانون الوضعي والقانون الطبيعي، فيما يعرف اليوم بالحجر الصحي ( الدعوة الى إلزام البيوت وعدم الخروج تجنبا للخطر) بعد تفشي فيروس كورونا في العالم. إن الابتعاد عن الخطر خاصية طبيعية قبلية وكونية، وهي كذلك بند وضعي لكنه جزئي لا كوني وهذا وهذا التجزيء واللاكونية يمكن تمثيلها في دفع الدول بالجنود الى الحروب بدل تجنب الحرب.

الشيء المثير للاهتمام اليوم هو مسألة الحجر الصحي هذه، لربما كان استثناء في تاريخ البشرية أن تتفق الإنسانية على شيء يخدم الإنسان كإنسان، لا كطائفة .
هذا الأمر يعيد إحياء الأخلاق الكانطية، ويعيد الى الأذهان التفكير في إمكانية الاقتراب من الكائن العاقل الكانطي، أقول ’الاقتراب’، والسير على الأقل في محاذات هذا النوع من الأخلاق، وهذا لن يحصل إلا بأخلاق كونية توحد العالم.

لكن إذا تحدثنا من وجهة نظر هيغلية، على اعتبار أن سيرورة العالم يحكمها الصراع والجدل، فمن الصعب التوحيد، إلا عن طريق القوة والإخضاع، أي لا يمكن أن يتوحد العالم على قانون واحد إلا بوجود قوة عظمى تهيمن على العالم وتفرض قانونها وتلزل العالم بتطبيقه، ولا يمكن لهذا القانون إلا أن يكون وضعيا، وهنا سنسقط في فخ الوضعية من جديد.

من بين صفات القانون الوضعي أنه متغير، وكل متغير حادث كما يقال، كما أن المتغير متحكم فيه وقد تهيمن عليه الذاتية أو الحزبية أو الطائفية. لذلك فالقانون يحمي واضعه ويصب في مصلحته، وهنا نسقط في الجزئية، ويصبح القانون طائفيا لا كونيا، وبالتالي يصبح غير صالح كقانون للإنسانية ككل. وهذا دافع آخر للاقتراب من كانط ومصاحبته.

إن دعوتي هذه للاقتراب من كانط، ليست قائمة على عصبية تجاه الفلسفة، -فالفلسفة خالية من العصبية-، بل هي دعوة لأصلاح الذات عن طريق الأخلاق الكانطية، وإصلاح الذات كما نعرف طريق لأصلاح المجتمع والإنسانية عامة

هل ستتغير نظرة الإنسان للعالم بعد هذا الفيروس؟

لقد كان لهذا الفيروس (فيروس كورونا) وقع خاص على الإنسان، لقد جعل العديد يفكرون على خلاف ما كانوا عليه، خصوصا كلما اقترب الخطر، خطر الموت على وجه الخصوص.
يهاب الإنسان الموت، بالرغم من علمه بأنه مصيره المحتوم، يحاول الهرب منه قدر المستطاع، ويصبح الإنسان خيرا كلما شعر بخطر الموت، وما إن يزول الخطر حتى تزول هذه الخيرية، ليعود لما كان عليه.

نفس الأمر يحدت اليوم، لن تجد شخصا يعادي شخصا آخر في ظل هذه الضروف، خصوصا في البلدان الذي ينتشر فيها الفيروس بكثرة، كل ما نسمعه اليوم هو تعاطف ورحمة وتحنن وشفقة على المصابين، إن الواقع هنا أننا لا نتعاطف مع أولئك المرضى، بل نتعاطف مع أنفسنا لخوفنا من أن يحدث لنا ما حدث لهم. وبتعبير نيتشه فما هذا التعاطف وهذه الرحمة سوى “أنانية مستمرة، ذلك أننا نشفق على الغير لخوفنا من أن يحدث لنا مثل ما حدث لهم، بحيث أننا نرمي من عطفنا عليهم إلى الدفاع عن أنفسنا ضد احتمال وقوع هذا الضرر لنا، أو نحمي أنفسنا من الشعور المؤلم الذي ينتابنا كلما صادفنا مثل هذه الصدمات، فالمسألة في الواقع ترد الينا في واقع الأمر، ونحن نشفق وفي ذهننا حالتنا نحن لا حالة الآخرين”.

إذن يعجل الشعور بالخطر من انبثاق التسامح والعفو والحلم تجاه الآخرين. لكن ماذا لو زال هذا الخطر، هل ستستمر هذه الرحمة وهذا العطف وهذا التسامح تجاه الآخرين؟
إن زوال خطر الموت أو نسيانه يعزز في الإنسان حب الحياة، ويبعث معه المصلحة، وهذا يحول دون بقاء تلك الصفات ( التسامح العفو…).

هذا الأمر هو ما حدث للإنسان اليوم، وما إن يزول هذا الخطر الذي يحيط به، والذي يذكره بالموت، حتى يزول عفوه وتزول سماحته، ويعود الى أنانيته السابقة والبحث عن مصالحه على حساب الآخر.

لذلك فهذا المقال هو دعوة إلى نسيان الخطر، والعمل وفقا للإرادة دون خضوع أو إكراه، إن هذا هو السبيل الأمل لخلق إنسان جديد، يجعل من إرادته الخيرة دافعا، ومن مبادئه القبلية منطلقا للفعل، لذا اتخذو من كانط صديقا، فهو صديق خير لا صديق سوء.

فريق التحرير H

خبير متخصص في مجال التقنية. بفضل معرفتي الواسعة بعالم التكنولوجيا، أقدم مقالات مميزة ومفهومة بسهولة تتعامل مع أحدث التطورات التقنية والأفكار الرائدة. بفضل خبرتي الوافرة، أسعى دائمًا لتقديم حلول بسيطة ومفيدة لزوار الموقع، مساعدًا الناس في فهم التقنية واستفادتها في حياتهم اليومية. تجمع مقالاتي بين الاستفادة العملية والإلهام لمتابعينا، في حالة كان لديك أي مشكل في ما يخص المقال المرجو ترك تعليك، سوف اكون سعيد بالاجابة عن سؤالك او حل المشكل الخاص بك.
Subscribe
نبّهني عن

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments